منهك صمتها العالي، حال انتصابها بين السماء و الأرض على جسر سيدي راشد..تحمل طائرة ورقية على جناحها الأول كتبت " الكتابة صناعة دهشة" و على جناحها الأخير كتبت "الكتابة فعل احتراق"، غارقة في فراغ ممتد بين دفتين من صخر،تجرها ذاكرة الشجن الأحمر للثوب الأبيض الذي أرغمت على ارتدائه، و كانت طفلة في السادسة من العمر ؛ لا تعلم لمَ ارتداء الأبيض اليوم دون كل يوم ..و لم اصطفت فرقة والدها على امتداد الشارع الرئيسي مدججين بحنو لم تألفه،للمرة الأولى ترى البراءة على هذه الوجوه التي طالما عكر سماءها وجع لم تعرف أبدا ما هو. يقبض نبيل أصابع اليد اليمنى التي مازال الحبر يغطيها ،و نور الدين اليد اليسرى، و تقدما بها خطوات ..
ليقفوا منتظرين صندوقا مغطى بالعلم.. تبتسم تحاول القبض على ألوانه..هذا الذي طالما اعتلى عرش السحاب ترفعا عن ملامسها، تلجم حركتها صرامة قبضتيهما، و هيبة هطلت على غير ترقب، يدخل العلم غرفة تنتصب بها قامة والدتها،يرفع العلم يفتح الصندوق على وجه الوالد، يرتجف الجسد، تحكم القبضتان عليه، تنفتح صفحات الدهشة البيضاء ، لا تعي ما ترى..الطفلة
تتقدم أمي بثوبها الأبيض تحتضن الجسد الذي مازج خضرة البزة العسكرية بحمرة الدم، طوقهما البياض الناصع، ليفلتهما و يحتفظ ببقايا الحمرة تنتهك البياض .
دنت من والدها رجفة تحاول أن تقبّل وعدا بالغياب، مدت شفتي البراءة إلى وجهه، و بياض الأنامل إلى موضع السلاح تتحسسه كما فعلت دوما..فلا تعثر عليه ، تصرخ ملئ المدى – أين مسدس والدي.
تأتيني صفعة والدتي: – أ كان ليقتل..لو حمل سلاحه...
ينهمر البياض شفافا، صفعة يد، صفعة غدر، و صفعات.. من كلمات لا يكبحها الدمع. والدتي الملازم الأول لم تذرف منه قطرة، انتصب كبرياؤها برجا ناريا، أما الدمع فحفظَته لوحدة الليالي، تطهر سوادها ليمتد بياضا شفافا غزيرا. يتقدم منها مساعدها حاملا صندوقا مرعب النقشات، تفتحه،تستخرج مسدس والدي بكاتم الصوت،تدنو مني ترشقه بظهري يتوسطها،تشده تنورتي البيضاء.
يحملون قبلات لم تطبع على بياض جسدها بعد
و عناقا لم يمتعها به بعد
و كلمات لم ترسمها على أوراقه بعد..تطويهم ببياض شفاف ..منهمر..و ينطوي العلم..يخلفون لها وعدا بغيابه حتى الأبد .
و أنا الكوكب الذري من سمائي السابعة ، أرقب بياض جسدها الذي كتب عليه بالحبر السري .. أرنو عاشقا لوقوف صمتها العاري، متأملة بل غائصة، في بياض طائرة الورق بين يديها، مرة أخرى تقرأ " الكتابة فعل احتراق..الكتابة صناعة دهشة " هذي التي تعلمت الكتابة قبل الأوان، لتدهش نبيل سيد طائرات الورق، يفتح لها أشرعت الورق، يسألها انتهاك البياض ببراءة الطفولة، على الجناح الأول تخط أمانيها، وعلى الثاني تشكل الكلمات دهشة. بعد عقد تعلمت صناعة طائرات الورق، كتبت على الجناح الأول "وجه آخر للوطن" و على الوجه الثاني كتبت "أحبك" وضعتها على طاولة صغيرة تكدست عليها منشورات.. بيانات.. إعلانات..دعوة لمسيرة سلمية..
هي بنفسها كانت كاتبتها ..خالت نفسها تكتب الوجه القادم للوطن..
و أنا الكوكب الذري من سمائي السابعة، شاهد عاشق لبياض جسد أنتهك بياض الصفحات، و لطخ الوطن بالدماء..و ها أنا ما أزال..و بعد عقد من العمر شاهد على وقار البياض يقف على الجسر يلقي بنظره إلى الجوف، يقارب وادي الرمال..شرخ المدينة ..هاوية الهوى ، فتلتقطه الذكرى، و تعيده إليها صورة بياض ثوب ارتدته بعد رجاء من نور الدين ، هو قال بثوب كنقاء الصفحات ،اخرجي ،لنرفعك حمامة المظاهرة، و نهديك لقلب الوطن ..
قبض أصابع يدها اليمنى،و احتضن نبيل اليد اليسرى و خرجوا ، لا يزلزلهم صراخ والدتها التي أقسمت أن تعتقلهم،و تسلخ جلودهم،و لا هزتها شتائم الأم ،إذ تنسبها للخادمة ..
- تربية خادمات.. ماذا انتظر منك ..خائنة ..حقيرة ..
جنبا إلى جنب سرنا ..مزق عبّاد الوطن صفوفنا..اخترقونا..و يعرفون أنّا بياض يشبه بياض قلب الوطن حد الالتباس.
في فزع الاعتقالات المنظمة حد العشوائية تمزقت الصفوف لجمت الدهشة براءة الخطوات، تخطفت أيادي مدججة نور الدين،في لحظة غفلة واحدة وجدته يسحب من بين أصابعي ..صرخت ..اندفعت ..لفني جسد شقيقه نبيل،سحبني نحو هذا الحائل الصغير بين امتداد جسر سيدي راشد و امتداد الهوة ..الخواء.
تقبض عليه الأيادي تسحبه فلا يزداد إلا تمسكا بي ..تتعدد..تتضاعف، يعض بيديه علي..لا يملك ...يتشبث بالجسر ..يقطع أملهم بي ..بنا ..
فيقطعون كل أمل له..لي ..لنا ..بطلقات تمزق الجسد الحبيب.
يخترقه الموت، يدنو مني،ألف يدي وراء ظهري ،أسحب المسدس ذا كاتم الصوت و ...
أطرزهم موتا..فأمي أعدتني للقتل..و ها أنا أقتل
أ انتقاما
أ فزعا
أ خوفا من الموت
أ حبا بالوطن ..الوطن لم يقتل يوما ..لا يمكن أن أقتل حبا بالوطن
قتلت ..
أنا قَتلت
و نبيل قُتل ..حمرة الدم تنتهك بياض الثوب ، و يهوي الجسد ذا البزة الخضراء ليكسو البياض و الحمرة ..ونكتب لحظة احتراق أبدي. أعود إلى بيت أمي ،تطوقني ،تعانقني،تشتمني،و تبكي،تغسل ما تلطخ من بياض الجسد بدمعها البريء
- يا تربية الخادمات ..لو اعتقلت لما بحثت عنك
بين كفي أحضن ارتجاف تقاسيمها
- اعرف أمي ..أعرف ..أنت تماما كالوطن تعلمين حمل السلاح، و تدخلين كلية الطب لأبعث الأرواح.
تمنحين الحرية..فقط لكبت الجراح.. و ككل أبناء الوطن أتنفس بعمق حريتي ، و أخرج عن حرفك لأكتب ..لأنتهك كل البياض..أمي..
و أنا الكوكب الذري شاهد على لحظة كَتبت الحب موتا أحمر، فانكمش متراجعا وقار البياض، و امتد بياض الفاتنة وقوفا بالموضع ذاته، بعد عقد عادت الفاتنة منهك صمتها العاري، حال انتصابها بين السماء و الأرض على جسر سيدي راشد..تحمل طائرة ورقية على جناحها الأول كتبت " الكتابة صناعة دهشة" و على جناحها الأخير كتبت "الكتابة فعل احتراق"، غارقة في فراغ ممتد بين دفتين من صخر، تجرها ذاكرة الشجن، تخرج قلمها،تكتب على مد الطائرة الورقية "تشتاقك الصباحات الندية يا وطني " ترفع الرأس يحضنها الغياب ينشب أنيابه بالقلب ،تخرج آهة ، و تعود تنتهك بياض الورق " ما أزال أكتب حبك انتهاكا أحمر لجسد أبيض" تلقي الطائرة و تلقي ...
و أنا الكوكب الذري من سمائي السابعة ما أزال أشتاق إليها..و إلى الصباحات الندية