عائدة كنت من زيارة سريعة لبيت بيكاسو .. فقد قرر
زملائي فجأة أن يتحولوا إلى مثقفين لإسكات أسئلتي الكثيرة عن باريس ..
باريس مدينة مثقفة فوق
العادة ، زيارتها رفقة ثلة من المهرجين أمثال زملائي هؤلاء لا يمكن أن تطفئ شغفي ،
و لا أن تهدئ الوحش الذي يصرخ في داخلي ،
شوقا لاكتشافها ، اليوم ، و بعد أيام من
تسلل صوته إليهم قرروا أخيرا التظاهر بمعرفة اسرارها ،فألبسوني ثوبهم ، و إن
استعصى عليهم خلع ثوبي ، الذي ما انفك يحيرهم ، و إن لم يحير الصوت الذي خاطبني
"مغربية"
"لا"
"تونسية"
"لا"
"جزائرية"
" ههههههه طبعا .. لكنك لم تحزر .." لا حزر و لا فهم الباقي من كلامي ، لأنه لم يكن
يعرف من العربية غير هذه "الجنسيات"
ابتسم مجددا "الحياة جميلة" .
بادلته الابتسام
"هل أرسم الجميلة"
"و كم عليها أن تدفع"
30
لا
25
20
هيا يا جميلتي
أجلس على رصيف بعيد عن باقي الرسامين ، يمرر عيونه .. فرشاته..بحافة
جبيني نحو عيوني ينزلق على وجنتي ، و يعيد تشكيل شفتي .. و ..أمرر ابتسامتي على جراح لا تلمحها الريشة
"أرأيت جئت من موسكو لأرسمك "
"أه أنت روسي .. و
هل تتقن العربية"
"الحياة جميلة"
نعم هي جميلة لولا أن جمالها موجع بعض الشيء ، لا عليك لا داعي
لاكتشاف الاحتمالات الاخرى للغة، ما تعلمته كاف جدا ليجعل "الحياة
جميلة"
"سالمة يا سلامة ..رحنا و جينا بالسلامة"
ابتسم .. ما عاد ثمة من سلامة في مدن كانت للحب و السلام ، كانت
تصدر العشق و الأحلام ، و صارت تستورد الموت لتسقطه فقط بأبنائها ..لم اعلق ..فقط
ابتسمت
لم تسعفني لغتي السوداء مع هذا الرجل الناصع البياض ، وحده
الجسد يسعف ،يتحول تدريجيا إلى ذكرى ، أحملها بين يدي ، ألفها ، ثم أعلقها على
جدران القلب ، و أخبرني إني كنت يوما حية ، أتنفس ألوان شارع أفردته باريس للرسم ،
و أبادل رسامي الحديث عن بيكاسو و أولى زوجاته الروسية ، وأسمح لقلم رصاص بمسح
ملامحي على ورق رمادي لتخلق مني أنثى بالرمادي و الأسود يكسرهما بعض البياض.
أتأمله .. طويل كحلمي المرهِق ، شاحب كأناتي ، صاف كلحظتي ،
موجع أنفه الحاد كنغمات الكمان التي شرعت ترتبها شابتان في مكان ما خلفي ..
ألتفت ، أبحث عن الصوت ،
"انظري إلي رجاء.."
ابتسم كأني أعتذر عن عشق يملكني لا أملكه..يتأملني بهدوء
"النموذج الجزائري الهادئ"
أفقد هدوئي أضحك بصخب "الجزائري ليس هادئا ..أبدا"
"لهذا تحديدا قلتها ..أنت أهدئ جزائري عرفته"
" آه حقا.. و كم جزائريا عرفت"
"أكثر مما عرفت أيتها الباريسية المحجبة"
كنت سأخبره أني لست باريسية ، لكن استواء نغمات الكمان خلفي
أنساني كل ذلك.. كان "زوربا"
أنتصب واقفة ، يلتفت زملائي "هل هي قسنطينية"
" لا هذه غربية ليست شرقية "
هي منكم و أنتم لا تعرفونها ، يوجعني أني وحدي .. هنا ..أسلم
مواجعي للنغم ، تلتهب غربتي ، حنيني، يرتجف القلب ..أو ربما الجسد ، يرغب بالرقص
للمرة الأولى راغبة بالرقص على حبال مواجعي ..أنا
"اجلسي من فضلك ..أنا لم أكمل بعد"
امتثل ، ليس له ، بل العقل الذي يفيق دوما في غير أوانه ، ليستر
جنوني ، لكنه يفشل في كبح جنون خيالاتي ..
التي تقفز نحوك ..أنت
أنت ..دون غيرك .. أنت
أنت ..دون غيرك .. أنت
لم أنت ..لا يهم
استسلم لدغدغة الكمان ، ترقص أحلامي
ما أشبه الأوتار بوجعي ،
ما أشبه زوربا بفقدي ..
ماذا لو كنت هنا .. أكنت لتقبض أصابعي ، و تنخرط دون كثير من
التفكير في رقصة أشبه ما تكون بالانعتاق ، تنقر الأرض بقدمك و ترسل صدرك مع الريح
، تحلق .. و تحملني لسماء ما ، لا تعرفها إلا أحلام طفلة طائشة لئيمة
لا وقود للنغم غير لهيب قلبي ..
و أنت ..
هل كنت لتراقصني ..
ثم .. لم أنت
"تفضلي .. سأغلفها بالورق الواقي ، لكن بمجرد عودتك ضعيها
في إطار .."
تمتد يد زميل تدفع له الأجرة
"لا"
"إنها هديتي لعيونك السوداء ، إنها أول عيون بكل هذا
السواد في حياتي "
"لكن.."
"أحب عيونك ..أحب سوادها"
لم أعثر على فسحة ما بفكري ، لأخمن سر اعجاب هذا الزميل ذي العيون الملائكية الزرقة
بسواد عيوني ، فقد كنت غيرت رأيي باللوحة ، كدت أطلب أن يرسمني و أنا أرقص ، لم أعد
أشبه "النموذج الهادئ" خلدني في احتراق علني ، فقد أتعبني طول كتمان
لهيبي
لكني لم أقل شيئا من ذلك ، فهو لن يراك ، لن يرسم أصابعك التي
عمّرت فراغات أصابعي ، سيرسمها معلقة بالفراغ كما وجهي الذي رسمه مجتث معلقا
بالفراغ ..
لا جسد و لا ذاكرة لهذا الوجه غير امضاء رسامه
25/03/2014