jeudi 26 janvier 2012

هوامش الوجع


هوامش الوجع

                                                                                          الإهداء                                                                                                                                                                                                                                  
إلى صاحب أوجاع ابن آوى
إليها: حين يختار الحرف هوامش الفؤاد، نكتب على هوامش الذاكرة

عندنا توقف القطار في المحطة الأخيرة، توقفت عينان عن ملاحقة حروف هذه الرواية، كنت قد بلغت آخر صفحة لكن عيوني لم تبلغ المنتهى، لم تكتف من التهام جنون الصدف المرتبة بعناية لإقناع ذاكرتي ..ذاكرتي دون كل القراء ..
كانت بكل حرف تحرك شوقي لقصة لم أعشها، حكاية كان قد رتبها القدر لذاكرتي، و رفض إقحام عيوني،و ها أنتِ يا صدف القراءة، يا شهوة الحرف التي تسكنني.. توقعينني بين أنياب رواية، تنهش ذاكرتي.
أنا يوم التقيت هذا الروائي المسكون بجنون حرفه، ما أجدت الصمت .. - و لا جديد أنقل إليك بعبارتي هذه- حاكمت حروفا لم أقرأها، فقط ليطول حديثه، و تنتشي روحي بكلام يكسر روتين مسامعي.
غير أنه .. ربما أدهى .. ربما ...لا أدري لأي سبب دسها بين يدي المنتشية بالتحليق شارحة نظريات لا أومن منها بحرف ، و وجدتني متورطة بتلك الشرارة الصغيرة التي أطلقت ، مع أني ما أطلقتها إلا لكسر الصمت المريب.
ها أنا و قد أتمتتها أضع حروفا صغيرة على حوافها [1]، و أورط غيري بها.عليا صديقة الطفولة وجدت الرواية تقتحم حقيبة يدها، تجاور أقلام العيون و أقلام الشفاه.
بعد أسبوع عادت ..قالت إليك نصك.. أوراقا متناثرات و حروفا مهشمة، من ذلك الأمس الذي لم يكن لك
اختليت بالصفحات الأخيرة من الرواية ورحت أعيد الركض خلف معانيها الهاربة، و إشاراتها السحرية لأنثى أخذت ما كان نبوءة لشقيقتها، و أنا ...
تقع عينان على كلمات سطرتها صديقتي بقلم الرصاص [2] تكاد تمزق الصفحات و تفر رافضة قول معانيها.
ما كنت لأصدق رواية، غير أني ما كنت أملك سبيلا للفرار من فكرتي السحرية، هل سرقت بشكل ما قدر غيري، و أهديتهم قدري... النبوءة التي أطلقها طبيب أسنان طماع بأني سأنتهي إلى سرطان اللسان إن لم أطع بعض أوامره الباهظة - طبعا- و خرجت بعد لقائي به محتضنة ذراع صديقتي سارة أقلد خشونة صوته، و أسخر من جليّ طمعه بطالبة، لا تجني ربع ما طلب من أجر، مرحبا بسرطان اللسان قالت...صديقتي
يضحك ربيع العمر ساخرا من التهديد بالموت، مع أني أعرف جيدا أن بيني و بين الموت صلة دم .. قرابة دم . أشياء كمثل قدر مفاجئة ، مباغتة، لا تأبه بالاستئذان ..
أو ..كالحب ..ترى لمَ لمْ أفكر بالحب ربما لأنه تأخر كثيرا، وحين جاء أخيرا، باغتني هو أيضا بقصة مقصوصة الجناح .. يومها قالت سارة : - القلب ينبض
- أهااا .. هل سيصيبه سرطان اللسان أيضا.. حافظي عليه ، فالتكاليف فوق مستوانا عزيزتي
ضحكت ..أطرقت .. و هي ترجوني أن أبدي بعض النضج، فالأمر جدي
- هو شاب يمر بي كل يوم.. حسنا تقريبا كل يوم ، عند عودته من العمل ، يمر بالمتجر الذي أعمل به ، يقتني عشاءه و يحادثني قليلا ، كلامه زهيد جدا ، لكنه كان كافيا جدا لبعث هذه العضلة التي جمدتها ظروف أسرتي،كما جمدت مساري الدراسي و باقي الأمور التي لا تخفى عليك ، و لا عليه
- و ..
كنت أنتظر البقية، هل طلب موعدا.. هل...
لا شيء هو لم يقل شيئا، لكنه صار يعرف أنها تنتظره كل مساء، و تعرف أنه يسمع نبضها. لأبني غدا لهذا النبض، عدت كلمتها أياما بعد ما أفضت إلي بسر قلبها، اقترحت أن تواجه قدرها، و تحيطه بحنانها، أو أن تضعه في مواجهة شعورها، هي تعرف و هو يعرف ، فلتأتي الخطوة الأولى
ما كان ذلك ممكنا ، و أنا طبعا كنت أعرف غير أني قصدت مداعبة القدر عله يبوح أيضا بمكنونات صدره..لكنه أبى ، حاولت إقناعها ، حاولت ..مرات عدة، و انتهيت إلى زج الفكرة برأسها.
رتبت بدقة فائقة موعدها مع الفرح، ككل النساء تزينت، مع أنها لا تشبه النساء. انتشى الصباح الذي طال عبوسه.
عانقتني .. قبلتني .. ثم غادرت ..خلّفت لقلبي رعشة تتراوح بين النشوة و الرهبة، حاولت كتمانها بالقراءة كعادتي، أخذت رواية صغيرة، كحلمنا الصغير، قلبت صفحاتها بغير النهم الذي اعتدت. رنة هاتفي خطفتني من صفحاتها، رقم مجهول..أنا لا أجيب من يخفي عني هويته عادة..لكن اليوم أجبت الصوت كان مألوفا ، قال اتصلت بي قبل أيام و كنت خارج الوطن ...
- كيف أتصل برقم لا أعرفه
- آه ..عذرا .. بالهاتف خلل ، أرجو أن تعذريني ..
ثم أرخى الصوت و سأل : ألم تتعرف على الصوت بعد ؟؟
ابتسم صوتي ..بلى
كنت اتصلت، لأستشير حضرتك في مسألة علمية، بما أنك لم تستطع الرد، سألت الزميل أحمد.
قبل أن يستعيد صوتي صوته، لأشكره على كرم معاودة الاتصال بي، وجدت صوته أيضا يفقد صوته، و هو يسألني موعدا خارج أوقات العمل
لم تكن الدهشة ما عقد لساني، كان الفرح.. هو من جثم على أطراف لغتي، فاختنقت، ما أبقى لي حرفا يحمل إليه نبضي، أربكه الصمت ، تأرجحت الكلمات على شفتيه ، لملمت حروفي خبرته أني ألقاه متى يشاء ...
و قبل أن يرد تطلبني صديقتي، أعود أذكر موعدا كنا رتبناه لها بعناية فائقة مع الفرح، يرفرف القلب أعتذر من رئيسي بالعمل ياسر، و أرد عليها..
- أخلف موعده.. الفرح
جملة واحدة و تغلق الخط ..ثم توصد عني جميع أبوابها .. تعتزلني ، ربما اعتزلت الحياة و ما كانت عيوني شاهدة عليها.كيف أقتحمها تلك الخلوة المرة ، أ ترتضي صديقتي الشجن رفيقا أعز مني ..
لم أجد غير اقتناء رواية لم تمشطها عيونها النهمة بعد، وحملها أليها، وحده الحرف يملك مفاتيح قلبها،طرقت باب غرفتها ، و أمها تبتسم ، أو يبتسم الأسى على محياها ..لا أدري
فتحت بدل وجهي وجدت الرواية على صفحاتها الأخيرة بوحي بأسرار النبض[3]، أخذتها و هي تعلق و تضحك – شريرة ..تعرفين مسالك الفؤاد
احتضنت أشياء منها ، ما كانت بالكامل في حضني ..بعضها ما كان هناك ..ساقتني إلى مجلسنا المعتاد على سريرها، و شرعت تروي عن تأخر الرجل الحلم عن مواعيد الفرح..قالت ..لما كلمته على هاتفه كان مشغولا،لما عاود الاتصال بها ، اعتذر بأنه نسي .. ن س ي الموعد..لا غير
ضحكت و أنا أضرب بكتفي كتفها و عيني تغمز عينها ..فضحكت . غيرت أثوابها ، و اكتسح جنون الشباب أزقة قسنطينة ، استعادت أنفاسها..و ما عدنا و التقينا إلا و هي تعيد إلي الرواية ، فقد علمت أني لم أقرأها بعد.
عند الصفحة الأخيرة سطرت حكايا القلب[4] الذي خلته اعتزل النبض ، يمارس نقاهته في سكون الصمت ، فإذ هو لا يعتزل سواي ..حتى حفل خطوبتي أفرغه غيابها من كل بهجة ، ما عرفت سر صمتها الطويل في حضرة أسئلة لم و لن أطرحها ، فلا حاجة بي لطرحها.
- أ لن تحضري زفافي أيضا . ساءلتها
- لا
- لم ؟
- ما أزال غير قادرة لا مواجهة هزائمي فيك
- أ سيء اختياري لهذا الحد ؟
- ...
- أ لست راضية عن اختياري؟
- بلى
- إذن
- راضية تماما ..راضية أتم الرضا.. راضية لأنه كان اختياري و أختارك أنت.. أنت هزيمتي و انتصاري
وجهان لحقيقتي المشوهة..
لملمت تصدعات النفس، جمعت أشلاء أحسست أنها الباقي من فتات الروح، و كتمت دمعة متمردة راغبة بالانفجار،طلبته، جاءني يسابق الخطو، كما لو أنه سيقبض على أحلام زائفة..لا يعرف أنها زائفة
- أتعرف صديقتي سارة ؟
- طبعا ..
ثم ابتسم – أعرفها عن قرب
- بمعنى
- كانت تريدني لها ، و القلب أرادك له
- لمِ لمْ تخبرني قبلا
- هذا شأنها ليس شأنك
خلعت خاتمه، تركته بين يديه، و اعتزلت النبض، أنشد نقاهة لا مواطن لها حتى بالحلم. أقلب صفحات القدر .
أ سطوت على قدرها أنا . اقتحمت دهشة صمتي حاملة رواية، فابتسم الشجن المعشش بالفؤاد، سابقت الحروف لأبلغ الصفحة الخاتمة [5] و أعثر على هوامش قلبها ، كنت أعلم أني مرتبة هناك بعناية فائقة ،لكن هالني غيابي المريع.
حمّلت نفسي ثوبا بالغ النقاء، و زهرا طافح الكبرياء، و سرت إلى حفل الخطوبة، التقطتني قريبتها، جالستني بمجلس كان لنا .. و أخذت تثقف أذني بأحاديث النساء .. مسكينة أذن لا تعرف من الكلام غير أحلام الروايات.. مسكينة أذني..
ثارت صديقتي و هي ترى انشغالي عنها مع أن عليا ما فارقتها، و ما كنت لأبدع مثلها، هي صاحبة السنوات الثلاث زواجا..كيف أزينها و أنا ما عدت أتقن حتى وضع زينتي. مع ذلك هنأت حماتها المستقبلية جمال براءتي،ودست بأذني كلمتين رقيقتين عن فيض أنوثتي ، خلفتني غارقة بين حروفها و دهشتي ..يبدو أن الجميع يصنعون دهشتي ، فبعد الخطوبة مباشرة ، عادت و قاطعتني صديقتي ، و خلفت بالقلب أسئلة حيارى لم أجد غير عليا أسكب بين يديها شجني ، غادرت بيتها و طفليها الصغيرين و جاءتني مسرعة ، و قبل أن تروي عطشي ، نهلت من صحرائي ، فعطشها كان أكبر ..سألتني عن الخاتم الذي ما عاد يشغل إصبعي، ابتسمت، أ هو سؤالها أم سؤال غيرها، خلتهما تعلمان، عدت و ابتسمت:
- تركته و تركت عملي يوم خبرتني صديقتنا أنه..هو حبها الحلم.
كأني صعقتها ، أو ربما ابتسامتي هي الصاعقة ، نسيت أسئلتي و رحت أجيب وابل لومها ، مع أن إجاباتي ما كانت تقنعها بل تزيد غيظها ، تزيح نظراتها ، تهربها بعيدا حتى لا ترى وجهي الذي ما عادت تحسن قراءة تفاصيله ، تلمح رواية ملقاة على وسادتي تأخذها تتشاغل بها ، أتركهما للأنس ، و أختلي بمطبخي لتحضير القهوة ، هي المرة الأولى التي أحضر لها القهوة وحدي دوما كانت ترافقني..
نشربها على دفئها ..باردة ، كقلب صمت نبضه ، و ترحل ، أحمل الرواية ، أضمها ، أقرر أن لا أفتح الصفحة الأخيرة لأقرأني عليها بل سأستجم بين صفحاتها كعادتي حتى أبلغ الأخيرة و أعرف يقينا أني سأجد عليها رسالة ما ، غير أن صديقتي خيبتني و تركت لي بياض الباقي من الصفحة الأخيرة.
مضطرة لزمت ُبياض الصمت بعدهما .. كلتاهما، وجدت لنفسي شبه وظيفة ، تغطي بعض نفقاتي ، لكنها لم تسعفني لاقتناء الروايات ، فضاع مني هامش الحكي ، و امتد العمر لحظات صمت ، بذرت فيها بضع صديقات زائفات. لو أن صديقتي تعرفان كم موجع زيف النبض ، كم حارقة كلمات نقولها ، و نحن نفكر بغير متلقيها
مشتاقة أنا ..
لسخريتنا من القدر..لبسماتنا..لسماء ضحكنا
مشتاقة أنا ..
كان يقولها لرفيقات عابرات قلب لم يعتد الترحال بين القلوب، ساقه الحنين لتمزيق الصمت، طرقت باب عليا،ضمتني بقوة و أجهشت بالبكاء.. ارتعش القلب فزعا، ما بال الغالية، مسحت دمعها، ساقتني لغرفتها تحت نظرات حماتها، و بنات الحماة..
أمطرت رجفة رهبتي أسئلة عن حالي و مآلي ، هدأتها و سألت سبب دمعها الجاري، ما أتقنها الصمت ، قالت سارا ..خنقها الدمع ، قبضت يدها : - ما بها .. ما بها سارا ؟
- ألم تعلمي .. أصابها سرطان اللسان، منذ سنة تقريبا، نحن ننتظر...
ماذا أقول للقدر ..لقد أخطأت العنوان يا قدر ، ذاك كان نصيبا سطر لي ..
أدخل غرفتها.. هيكل عظمي يكسوه جلد لا حياة فيه، أدنو أجثو على ركبتي أحاول لملة حروفي، اللغة خائنة،الصوت خائن.. كل تلك النصوص التي قرأت لم تسعفني حرفا واحدا يلفظ حرقتي. من خلف غمامة العبرات التي تحجرت بمقلتي لا غادرتها و لا جفت، ألمح نظراتها..كشواظ من نار تساقط بالقلب .. بأعمق نقاط القلب.
تمد يدها إلى حقيبة يدي تسحب منها رواية أجهدت راتبي الجديد لاقتنائها، تأخذها تقربها منها، تدسها تحت وسادتها، أعلم أن الزيارة انتهت.. أحملني إلى وسادتي أزج رأسي تحتها و أنهمر شلالا من دمع، ينسكب على نار إغريقية التهبت بالقلب ، لا يزيدها الدمع إلا استعارا ..
عدت إليها أبحث عني بين مقلتيها هل تغيرت تلك النظرة أم أنها للخلود خلقت، ما كان ثمة نظرة و لا جثمان،دفنت سريعا أمس .. هكذا قالوا دخلت أعزي والدتها، تضمني إلى صدرها تبقيني هناك أغرق بعطرها أنثى الحلم التي لم يعتصر القدر.. أ كانت تعلم أنها ضحية بديلة للقدر، أم أنها ما علمت..
تسحب روايتي تضعها بين يدي، تقول أعلم أنك ستشمين هنا عبير الأمس، تختنق اللغة و يعرب الدمع، تمسحه تقول اعذري فزعي لم أتصل بك أمس، أدنو منها، ألقي بي في حضنها في محاولة فاشلة لامتصاص شيء ما..
لا أدري ما هو .
يقطع تأملي للصفحة الأخيرة صوت الشاب الجالس قبالتي :
- آنستي .. هذه هي آخر محطة ...
يخرجني من صمت صفحات تحرك الأسئلة و لا تمنح أي جواب ، أبتسم ، أشكره ، و ..
أخرج قلم رصاص ، أودع به هذه الرواية[6] ، فبعد اليوم لن أعود لقراءتها ، أحرك بذلك الفتى شهوة التطفل على مدن الحرف السرية ، أرفع نظراتي الباسمة ، يسألني سر هذا الكتاب، فأدسه بين يديه ، يطلب مني أن أسجل رقم هاتفي حتى يتمكن من إعادته إلي يوم يتم قراءته.. أبتسم .




[1] : كأنها ذكرتني بشيء حصل معي
اكتشفيه بنفسك ..محبتي

[2] : هل أنت مجنونة لتصدقي رواية ، أو كتابا أصفر ، أو حتى نظرية ، خلتك أذكى بقليل
الموت حق .. و طريقة موتنا لا يعرفها غير خالقنا
[3] : رئيسي السيد الوقور ياسر طلب يدي ..هل تصدقين
أمممممممممممم هل أوافق ؟؟
الحقيقة وافقت و انتهى ، أنا لا أحسن مقاومة سحر رجل يقرأ الروايات
أوف و ألف أوف من الروايات
[4] : و سيطلب فارس يدي ، و سأقبل ..
[5] : حفل خطوبتي يوم الخميس
[6] : تطوى الصفحات ، و تخلدين وردة من نور بالقلب قبل الذاكرة

mardi 24 janvier 2012

متاهات (مقتطف روائي )

جلست إلى الرواية التي سأدفع بها إليك، أحاول قراءتها، أو ربما كنتُ أبحث لها عن منطق ما، أسأل نفسي كيف سترتبينها، و أي عنوان ستختارين لها، و هل يمكن فعلا أن تقبلي بنا، أو بأحدنا على الأقل.
إحجامك عنا ..كلينا
جعلني أركض خلف سراب لا أدري ما هو، و لا أي فائدة أرجوا منه، المهم أني أحاول لا أجزم.
اليوم غادرت فراشي مبكرا، تسللت قبل أن تلاحظ أمي فتسألني، فبأيكما كنت لأجيب.
جلت بشوارع قسنطينة قبل الفجر، بدت هادئة لم تشبه عواصف ذرية، بدت شبيهة لك سها 
،شيء منها يتقاطع و شيء منك، اجتمعتما أمامي صخر يبتسم للقدر، و امرأة.. حسنا أنت لست امرأة أنت طفلة بسن مختلفة عن أعوام الطفولة.
لا أذكر غير ابتسامتك، خلتني ألمحها على الصخر العتيق، وقفت على الجسر أتأمل المدينة كأني أراها للمرة الأولى، أتعرف عليها مجددا كأني أراها قرونا بعد لقائنا الأخير، ما الذي بدلها كانت تشبه ذرية، لماذا تتشبه بك فجرا.
خبريني يا امرأة الاقتصاد الفائق للكلمات.
تنفست المدينة، سحبت بعض الراجلين كما كانت ذرية تسحب دخان سجائرها فغادرتُ..غادرتهما معا، المدينة و المرأة المدينة.
دخلت حمامي تركت الماء يغسل إثم التفكير بك ..سها.
يا امرأة هي ملكية خاصة لرجل آخر
لكني لم أملك على الرواية سلطانا
حملتني،وسعت بي أفتش عن الزميلة سها ، اتقيتها عند البوابة كأننا على موعد، أو كأن القدر سحبها،ابتسمت كعاداتها، و لم تنبس بكلمة،حاولت استبقاءها، لكنها كانت على عجل، أو على وجل، لمحت تخوفا في عيونها:
- سها كنا بالجامعة صديقان، و نحن الآن بجامعة أخرى معا.. لكننا..حسنا لم نعد كما كنا
ابتسمت:
- هنا الأمر مختلف، و ظروفي اختلفت
-ارتبطت..
لزمتِ الدهشة كأني اقترف إثما أمامها، سارعتُ بالاعتذار خشية أن..ربما خشية أن أفقدها، و الرد جفاء:
-و اللهِ يا أستاذ...
بترتْ كلماتها و كلماتي أيضا، وشيّدتْ بكلمة واحدة سورا بيننا،إذا كانت تدعوني أستاذا فعلي أن..
أن أقف عند حدود الزمالة المتحفظة التي لم أعتد منها.
سها كانت بسمة، كانت كلمات متقاطعات،ولعب طفلة تهوى الاسترسال حتى آخر حروف اللغة، سها لـِم تنكمش اللغة وتتراجع،عند اللقاء الذي ليس سوى وعد بالفراق السريع.
تحمل صمتها و تدخل قاعة الدرس و لا أملك على النفس سلطانا، أقابلها مستترا بجمع من الرفاق، أراقب درسها، أتقدر النفس التي افتضح انكسارها على التفاعل و مائتي طالب من النخبة، لا تمر عليهم كلمة إلا و استوقفوك عندها عمرا ، طلبتنا مثل جمارك كلمات، لا بل هم جمارك أفكار.
أبحرت أرقب حركة جسدها، هي المؤمنة يقينا أن للجسد لغة، لغة جسدها بدت بهجة متأنقة، هي ما كانت هكذا ..سها كانت فاترة الأعصاب فائرة العطف، ملتهبة ببساطة تربكك، اليوم انظر إليها، إنها..
تشبه ذرية أن تكون نقيضا مطلقا لشخص آخر فهذا يعني أنكما تلتقيان عند النقيض ذاته..
ماذا يحل بي أ تصيبني الهادئة بالجنون الذي لم تصبني به العاصفة.
ذرية أين أنت تعالي راقبيها برفقتي، راقبي سها التي كرهتِها مع أني لم أكلمك عنها، إلا لأعلمك أنها ستكتب القصة التي هي تحديدا قصتنا، الوجع الذي التصق عنوة بقلبي، بجسدي و أحيانا أخاله اقتحم روحي..
ذرية أتذكرين رجلا مر من العمر سريعا، كان شهرا، لا أكثر،واختصر الشهر العمر بكامل أحلامه.
دوريا.. أكاد أحضنك و أنا أذكرك، لكنها ...سها
تشوش النفس تستحيل ستارا بيني و بين أحلامي، ملكْتـِــني على مد السنتين، وكانت سها هنا و ما حركت مني حلما، لكنها اليوم وقد لملم الحب فزعه و بلغ نهاية الأمل و استحال الأمل ألما.. ها هي تستأصل بعضا منك لتحل محله بصمت، بخيبة لا تخفيها إلا لتتفجر بين الأهداب، بين الشفاه، لو أملك من الشفاه قبلة عابرة، لا تنثر وعدا ولا تشترط عشقا،عابرة ككلمات عابرة نخطها على خواطر الأدراج الجريحة التي لا يعرف الأدب لها سرا، مجرد قبلة زميلتي من شفاه لا تسعف الشغف و لو بكلمة.
ألا تعرف الكاتبة التي تدعي أنها تقرأ أفكارك قبل أن تفكر بها، ألا تعرف أن الصمت حرب استنزاف للصبر، أنه إعلان عن ثورة يـخوضها الرجال مجندين كل سلاح ملكوه، لتنتهي النساء صريعات وعد لم نلفظه، و تقولين زميلتي الجسد يلقي الوعود، صدقي زميلتي وعود الجسد ،ووعود نظرة تلتهمك في ثانية تمسح كل نقطة من جسدك قبل أن ترفعي بصرك صغيرتي ،و تلتفتي بثقل الانكسارات و الفجائع التي تسكنك أو تسكنينها و لا أجد لها من داعٍ .
أ يمكن أن تقفي إلى جواري ذرية لتراقبي زميلتي الملفوفة في شرنقة، لو تتبادلان الأدوار،لو أن المرأة القاطعة كحد السيف زميلتي ، و هذه الغائمة المعالم تغني للوزراء و السفراء، و تعاشر السكارى وتترفع عن الأساتذة الجامعين، الأساتذة بمقاييسك ذررية.. فقراء، للمرة الأولى أكتشف فقري، راتبي بالكامل لا يقتني تنورة واحدة من تنورات فتنتك الدافقة، كيف أتزوجك، تبا لك
تبا لك ذرية..
لو أملك الصراخ بأعلى صوتي، لو يمزق الصوت القدر الذي مرغني بوحل امرأة منبتها حرام وعيشها حرام، حتى الهواء الذي تتنفس حرام، بل الأرض التي تدوس تنقلب حراما.
ذرية لو لم تكوني...
أي كلمة قد تسعف القلب، لو لم تكوني أنتِ..فأنتِ لست المرأة التي يتزوج رجل يحمل سجل خيباتي.
إنها عقد الأساتذة الجامعيين، أو ربما هي عقد الرجال أيا كانوا عقد الجزائري الذي لا ينكح إلا امرأة تشبه الأطر الاجتماعية، تشبه المجتمع الذي يقبض على أنفاسي، تشبه سها المتحفظة الملتهبة الشوق إلى...من سها؟
إلى السراب.من تنتظرين يا صمت الجسد، و صمت اللغة، يا صمت ينفجر بلاغة.
يغادرني الرفاق، أمكث وحيدا قبالة قاعة تدرس بها زميلتي، أحمل أسئلة لن أطرحها و أجوبة لن أحصدها، و أسير إلى قاعة الأساتذة، أنتظر ملاما لن تلفظه فهي ككل الأساتذة حويطة،تدخل رفقة زميل آخر للمرة الأولى أراها كما كانت أيام الجامعة كلمات متقاطعات، كانت تمازحه تستفز رجولة لا تدري ما قد تصنع بها إن استفاقت،عيونها عالقة على نقاط متناثرات من جسده مبعثرة تائهة في هذا الرجل الأب، أ هي غواية الشيب على حواف الوجه منه  ما أردت القلب صريعا، أنت التي قلت يوما أنك لن تغرمي بي لأني لست أشيب، أ تذكرين سها يوم جالستك للمرة الأولى و كنا زميلي دراسة ؛كنا نعد بحث و اخترتك شريكة و التفتت دهشتك تفتش عن هذا الذي يقتحم أسوار صمتك، لوحت بيدي فابتسمت، و جالستني بعد الحصة، قلت أنك محيطة بالموضوع، و أني لست مضطرا للبحث، أ كان العطاء البالغ أم مجرد طرد من حصن اقــتُحِم على حين غفلة منك.
رفضت عرضك فأنا أردتك أنت لا البحث.
و جالستني أخيرا بعد أسبوعين من الكبرياء الملتهب،جئتني مجنونة أحضرت لي غذائي قلت كأم مع أنك لا يمكن أن تكوني أما، أو حتى أن تصبحي يوما أمًّا؛قلت أني سأفوت غذاء الحي الجامعي، أ لست مجنونة.
أنا تناولت السحر بين حبات الملح، و خلتني أسقيك سحرا طلبت إليك أن تشتغلي برفقتي شريطة ألا تقعي بحبي، نظرتك كانت متعالية، قلت طالما لم يبيض شعرك فلا خوف علي.
سها..
كنا زميلين ..و اليوم نحن زميلان أي فرق تجدين لتنبذيني و قد كنت الأحب إليك.
ثم لم هو، لماذا اخترت هذا الأستاذ الذي ابتسم زهوا بامتلاكك ألقى علي تحية تشبه عقب سجائر ذرية، و عاد يكلمك، ليخلفك .. يغادرك..
جلستِ..قشعريرةٌ عبرت القلب..
حملت الجسد دنوت سحبت الكرسي المجاور لها فإذ يدها تقبض عليه، تفلته ،تسحب الذي بعده، ترفع بسمتها تسترضي غضب لم أجد الوقت لأحسه بعد.
جلست حيث شاءت، التفتت و قد حنت رأسها تجر بسمتها كانت ابتسامات منتصر،لم أملك غير الرد عليها بالمثل،هل أقول لها...
هل أؤجل.. متعة التفرج على حيرتها، و أكتفي بلذة استفهام لن ترشده الأسئلة،لأنها لن تنثرها ،فقط لأن السؤال مذكر، و هي أنثى لا تمارس إلى المؤنث؛إنها امرأة الإجابة.. فالإجابات أنثى، أما ما هو بين ذلك فهي لا تأتيه أيضا، شديدة العناية هي بأنوثة لا تمتلكها، لا تعرف أنها طفولة لا تنقضي ،و من الأطفال لا يهم الجنس فهم أطفال وانتهى.
لكنها لا تعرف، من قد يوسع ثقافتها و هي تحكم لف شرانقها..ستبقى محكومة بالبراءة المؤبدة.
- سها
 أين قضيت عطلتك؟
- بمنتجع الدكتوراه، بقسم اللغة..أتدري الخدمة سيئة لا أنصحك به مطلقا..
جرتْ بسمتها و ضحكتُ لا أدري لم، فاقترفتِ السؤال:
-ماذا عنك..
-بمنتجع جعلني أدرك أني رجل فقير..
صمتت لحظة، ثم أومأت إلي برأسها أن أكمل، أحسست أني استعدتها، بحركة خاطفة اقتلعتُ الصمت وعدت الصديق، فهل أخبرها فأخسر الصديقة و أشتري الرواية ،أم أضحي بالرواية وأحتفظ بالصديقة.
- أخبرتك أني سأقصد العاصمة لأدرس الموسيقى.
- آآآآه ..كل نهاية موسم تخبرني بذلك و لا تذهب
ثم استدركت كأن جديتي أوقفت تأففها، اتسعت عيونها دنى مني الشق العلوي من جسدها:
- لا ..ذهبت إليها
- إلى من؟
- أأأف، أنا أعرف أنك تريد صاحبة الجمعية لا الجمعية
تبا لك أنتِ أيضا سها:
- من أين أتيت بهذه القصة السخيفة؟
- لو قلت كلمة أخرى لكنت أقنعتني،لكن كلمة سخيفة هي مرادف صريح لحقيقة، أيها العاشق.
ليتك احتفظت بالصمت،ضحكك أغلق مجاري التنفس مني
- لماذا تضحكين..
- كنتَ دوما تأتي لاهثا تخبرني أنك وقعت، و أنك هذه المرة ستجعله مشروع العمر، و كنتُ أقول تريث، أمعن النظر بقلبك الآن ،ما تاره هو الحب.. مشروع مكتوم، لا نبوح به، إنه السر..اليوم أقول لك تشجع لن يكون التقدم في هذه الساحة يسيرا لكنه بطعم الفرح
صمتت لحظة تراقب تنهدي و أضافت:
- مبارك أريد الحلوى الآن لن أنتظر..
كأننا تبادلنا الطبائع استرسلت تحدث لا تسمع، ولزمت الصمت حتى خلتها لن تفهم مع أني أكثر من يعرف أنها تفهم..تفهمني..
- ثمة مشكلة...اشترطتَ أمورا لا تقدر عليها..
استمرت تكلم نفسها، تخمن، هذه هي صديقتي المجنونة لا تترك لك فرصة أن تكون، هي بنفسها تصنفك حيث تشاء هي:
- مشكلتك مادية إذا
لم تلحظ أنها هي..
هي تحديدا مشكلتي، لا لم تكن هي، كان ثمة حسابات عالقة حتى قبل أن أفكر بها:
- سها هي ليست مناسبة لوضعي..
صمتت غيضا، مع أنها طالما قالت هذا عن كل السابقات:
- لمَ تصمتين الآن..
قلتها بكثير من السخط، كأني أدينها لذنب يعرف القلب أنها لم تقترفه، أعادت إلي نظراتها.. كانت فزعت كما لم أرها يوما، على أهبة البكاء، لم يمنحني انكسارها على نغمة صوتي فسحة لاستجماع عقلي، أو الباقي منه، وجدت يدي تدنو لتقبض على ذراعها الممدد إلى جواري ، لكنه كان الأسرع انسحابا،خلفت قبضتي معلقة و لغتي تجمع أشتات الاعتذار لتتبعثر أوراقها كاملة،و تنسحب نظرتها و يدها بخفة:
- لا تعتذر لست السبب، إنها العبارة ؛قاسية في حق امرأة..ويكيلها الرجال جزافا.
انسحبت خلفتني بمقعدي أتأمل حضورها و غيابها، كأن لم تكن هنا، كأنه سراب. نادم الآن..
عرفت أني سأضيع الصديقة ثانية، و أنحذر نحو جحر الزمالة.أنت أيضا سها .. أنت و إن كنت نقيضا مطلقا لها، ما أنت إلا نسخة عنها...عن ذرية حبيبتي .

samedi 21 janvier 2012

نصف وسط من كل شيء

نصف وسط من كل شيء
رحيلك المبكر هدم مدائني الزجاجية، أفقدني حواسي المبجلة،رحيلك حمل روح الطفولة إلى عوالمك الضبابية ،و خلفني جسدا بلا هوية ، بلا عنوان لم يعد لي بعدك من زقاق ،و لا بوابة نحو الآخرين، بقيت سجينة الجسد، و طيف امرأة تتحرك أمامي تعد كل ما يجب ثم تحمل أجرتها و تغادر نحو الآخرين تفرغ أحمالها معهم..و أبقى أسيرة جسد و عمر انقضى دون أن يحمل إلي الكلمات و لا ألوان الطرقات.
رحيلك المبكر،مرغ طفولتي في الصمت و البكاء و استغراب أحبتك أمام هذا الأداء البارد و المجافات البالغة للكلمات ..
أنا نفسي لم أفهم ، لم أقبض على خيوط القدر من حولي لألاعبها بالشكل الذي تشاء..لأحفظ القوانين و أميل بميلها ،لم تسعفني سنواتي الأولى ولا العمر بكامله أسعفني..و لا حتى اللغة بما ملكت من كلِم،أخرجتني إلى عالم الغير ..
لو أنك هنا أبي..لو أنك جلست تحاورني و تلاعبني، لو أنك فقط قرأت لي كل ليلة حكاية..أبي لحفظت الكلمات ..لرتبتها ،لأخلق لغة خاصة بي كما فعل كل الأطفال من قبلي.
لو أنك هنا أبي..لاتخذتُ لي منصة في هذا العالم، لربطت الوشائج مع هؤلاء و هؤلاء
لما وطئت هذه النصف وسط من كل شيء.. لما سكنت المنطقة الوسطى بين الجنة و النار ،لا بكماء أنا ولا طليقة لسان ،بين بين وقفت،أتعلم لغة الصم ،ولا أقبل في جمعياتهم ولا مدارسهم ،أكابد بحتا عن العبارات ، فلا أعثر حتى على المخارج لحروفي
أبي ..ابنتك نصف حي نصف ميت ، ابنتك قليل جدا من كثير جدا
ابنتك التي فضلت الرحيل بعيدا عنها ،بعيدا نحو غدك ،ولم تعد
أبحرت أكثر مما شئت ،عشقت أرحب صدر بالوجود ..أو لعلها هي عشقتك ..أو أن شوقك لأمي هزم حبك لي ،فلحقت بها إلى ذلك العالم الغيب.
و بقيت أنا ..وحدي هنا ، مع هذه المربية التي لا تحادثني إلا لتسأل عن حاجة أو لتعلن عن انصرافها إلى من يبادلونها السلع الرائجة بينهم السلع التي احتكروا دوني..
أبي..لو أنك هنا لو أنك معي لما بخستني هذا الذي يحتكرون،لكنت أمطرتني حتى أغرقتني
و لكنتُ..لكنتُ غردتٌ..أو على الأقل لما كنتُ...
أسيرة المخارج المنتئية عن طموح حروفي إلى الهجرة في هذا الكون.
الناس جميعا ، جميعا دون استثناء يوقعون بالصدى عبورهم من هذا الكون ، إلا أنا،أنا نصف كلامي.. مع نصف صمتي..لا يمكن أبدا أن يخلدا وجودي في هذا العالم الكامل الذي لا يعترف بالنقائص فما بالك بالأنصاف.و لما كنت اليوم مجرد مترجم لهذا الأستاذ الناطق في مؤتمر للصم البكم.
أبي أنا...و شهاداتي و اجتهادي ،و كل سنوات الذاكرة لا يمكننا أن نهزم التقاليد العلمية التي لم تحسب حساب نصف الوسط الذي نحن عليه..
لم يخالوا يوم شيدوا هذه القاعة العظيمة أن نصف وسط مثلي سيمر من عليها، و أنه بالتحديد امرأة نصف ناطقة نصف صماء ..أنصاف متتالية من اسم جمعيتهم ...و لم يمنحوني شرعية الانتماء.لأني لا من طرف هؤلاء ولا من طرف أولئك ..
أنا الحد الفاصل بينهم .. نقطة التقائهم ،أو ربما لحظة انشطارهم
الناطقون على منصة طويلة توحدهم ، و الآخرون أحضان القاعة الشاسعة تضمهم ،أما أنا
وحدي أنا أفردِتُ في منصة خاصة، ليُذكروني، فلا يجب أن أنسى أني مختلفة أني حيادية و أن حضوري ليس دليل انتماء قدر ما أنه دليل فرقة و بعاد، و وحدة سأظل وحيدتها الوحيدة..
في عزلتي لم أملك حريتي، كان علي أن أقمع تلك القطرات الصوتية من التدفق نحو أي غاية .لم يك ذلك سهلا،مع أني أكابد لأنال صدى رغباتي، فإن الصدى يفلت مني أحيلنا ،لم ألعب دوري الأتم ، لم ألتزم بالفقد التام ،وسطيتي تتمرد بين الحين و الحين تعلن عن نفسها ..تفضح أسرار الأمس بي.ما بين الغفلة و الاستغراق تترقرق الأحرف تبلغ مسامع البروفيسور المحاضر، أرفع ناظري، إنه يحدق أبي
الغد أبي، الغد يتسرب من بين أصابعي .الغد يضيع بين زحمة البشر.
الغد يستقر تماما حيث استقر غدك، صريع النهايات غير المرتقبة.
كلمة منه..تفقدني منصبي تفسحني لكل أنواع البشر
أنا هنا في أمان ..أبي،ليسوا كثرا أبي..
تعودوا نصف وسطيتي.أنهى محاضرته،إنه يصافح المدير و كبار المدرسين،و يحدق بي،هل قرر أخيرا وضع نهاياتي.خارجة عن كل قوانينهم أنا. جمعت أوراقي لأغادر خطوة بعد خطوة نحو الخفقان المتصاعد،نحو هذا الكامل الذي لا يمكن أبدا أن يكون نصفا أو وسط، أو أن يحمل أي عيب ...كم أنه وسيم يا أبي.نظراته العالقات بشيء ما مني لا تبدو موطنا لنصف وسط مثلي، أكاد أبلغه ولا يبتسم ،لم أر ابتسامته مد حل بنا،ما باله أ كان يعلن مند البدء أنه سيغير شيئا ما من هذا المكان.
أن إثبات عبوره سيكون إقصاء النقاط الشاذة،سيعيدني إلى بيتك أبي وتلك المربية التي ارتضيت لي، قد يضطرني حتى لإدارة أعمالك.
قد يجعل مني موطنا لكل جنس.
بلغته و المدير ممسك بيمينه يربت على كتفه كأنما يدعوه للإسراع بوضع خاتمة نصف الوسط،إخراجه من فراغهم الذي و على كثرتهم لا يملؤونه إلا بأنفاسهم،وحركات أجسامهم.ابتسم لي المدير ناداني "يا ابنتي"
لا يحق لغيرك مناداتي ابنتي ،مع أنك لم تستثمر حقك ذاك مطلقا،ربما لأنك تنازلت عنه ،كما لم يتنازل هذا الرجل عن مد يده إلي،كأنما يجعل من نفسه صلة تربط بين نصف وسط و بين ...
أ تعرف أبي أخاله أضعافا عن كل شيء .
و استسلمت، انزلقت على معراج الحدة نحو سفوح منفتحة من كل ما كنت أتمنى أن ترمقني به، هل يمكن أن تكون حيا في مكان ما.
هل يمكن أن يحصل معي ما يحصل لبطلات الأفلام السينمائية،حين يعود الحبيب بعد أن يظن موته ، فيكون أنت أبي..
لا ..لا هو لم يبلغ الكهولة بعد..
يقدمه لي المدير إنه واحد من الدين أحبوا هذا الفضاء و أهله، نذر العمر لخدمة هؤلاء الدين أعيش بينهم، أدرسهم، و لا أمتلك بطاقة انتماء إليهم،هو بطاقته بقلوبهم.
سلمت عليه ..تعارفنا.
المدير قال أنه يتمنى محادثتي و قد خُصصت لنا قاعة المعاينة.
-لا...عفوا مشغولة أنا الآن..وداعا
أنا...لا يمكن أن ألتزم الحياد تجاه نصف وسطيتي،و أمنحه إياها فأر تجارب ،يمارس عليها ما يشاء ..قد يسير بها نحو الإعدام،نحو جعلي واحدة من هؤلاء...
لا يمكن أن أكون منهم،لن أحتمل التدحرج،قد يهشمني،سوف أنتهي ميتة قبل الوصول،أبي ما كنت لأتنازل و أنا ابنتك،ما كنت لأسمح لأي بشر أن يجعل من ابنتك موطنا لرغباته..عمله أو حتى علمه..
انصرفت،قررت أن لا أعود،أن أسحب استمارة المعلومات خاصتي حتى..حتى لا يجد إلي سبيلا.
غير أني عدت ..و في أحضان تلك القاعة ارتميت، أراقبه
كان جالسا مكاني يترجم لأستاذه أيضا، ينقل لي و لكل هؤلاء الدين صرتَ تعرفهم
ماذا أروي لك أبي ..
علقت عيناي به،ببريق عينيه،و بريق تلك اللغة.أ كنتُ بهذا التألق أمس؟
لا ..لا أظن ،وحده هو،وحده يملك هذا السحر،هذه الجاذبية،و هذا الإغراء..هل يراني كما أراه،عيناه لا تفارقاني،ترقباني في كل نظرة..همسة و ابتسامة، علقت العين بالعين،ابتسم ابتسمت...
هوت سنوات العمر أبي، هدمت نصف وسطيتي..
عبقت القاعة بأريج لم تعهده حواسي.تدفقت موجة من الدفء الندي حولي،غمرت الكون .حررت الصدر من الآهات.إنه زمن للانشراح للكف عن الفرار..
لأبتهج، لنقول أننا و بكل أحمالنا،أخف من شحرور،أسعد من ملاك..
أبي ..آه يا أبي..
الآه ليست موطنا للألم دائما،الآه اليوم للحرية، لو أنك تدري يا أبتي لمست الشوق،تنفست الحنين،و انكويتُ بالانتظار،احتميت بوجودهبكل هذا الذي يصنع داخلي .
إنه يعيد ترتيبي،يغير ملامحي.تلك القسوة،ذلك النفور الذي كنت أحتمي به،تلك الصلابة التي أعتكف عندها،تبخرت،حملتها موجة دفئه ،حملتها رقته،ذلك الحنان الذي لم أتجرعه قبلا،ذلك الذي حرمتني منه أبي،لمسته،و للمرة الأولى صدقت بوجوده،حين ضم بين كفيه يداي..قال أتأتين.
قلت إن حلـّفتني و حلفتَ لي..
قال أستحلفك بأيامك الضائعات قبلي أن تتبعي خطاي،و اقسم بحق لحظات عشتها في عينيك أن أجعلك الأسعد في العالم كله.
و تبعته أبي..تبعته
أشتم عطر رجولته،أبحث عنكَ فيه ،أبحث عني ، و عن مخزون الطبيعة فينا،عن أحلام النساء،عن إنسانيتي، و عن كل ما حرمني الزمان وخوى العمر منه.
أغمضت عيناي ،لم أر مع أني أبصرت
لم أسمع مع أني أصغيت
لم أفهم مع أني حاولت
لم يك يغازلني، كان و فقط يسألني.يسأل يدون،يفكر طويلا ثم يعود يسأل، مبتسما،غائصا في روحي، عابرا إلى أبعد من العين..إنه رجل بوطأة خاصة،أسرار العمر التي دفنت في صدري بينكَ و بيني،كشفتها له.خنتك أبي، فتحت النار على غيابك، و قلت أنه صانع نصف وسطيتي.أنك أبي ناري مع أنك نوري الحاضر الغائب.أنك و إن كنت هدى السبيل ضياعي.
انتهيت أبي ،لأني غدرتُ بك..
انتهيت..ليس لأنه اتهمك بتضييع الأمانة ،بل لأني ألعب أدوار إليزا وهو يواجهني كأنما هيدجينز .حياتي كلها انقلبت إلى مسرحية مجرد مسرحية خطرت يوما ببال بيجماليون.أني مجرد فكرة حمقاء مرت ذات دفقة عابرة بخيال الفن.
أخيرا أبي ها أنا عاشقة جلادي ،لا أملك غير إتمام دوري ،و البحث فيه عني و البحث له عن قلب قد يحبني به.و ختمت مسيرتي بانهزام مر، أمام رجل علم، موضوعي يمكنه أن يغازل،أن ..وأن....
و لا يمكن أبدا أن...
آه أبي ..و لم تعد آهة الحرية بل آلاف من الصناديق الحاوية لكل شيء،لكل ما يمكن أن يحرق قلب أنثى حتى و إن كانت نصف وسط في كل شيء.ميزتها الأفرد تغترب عن نبض الفؤاد..إنه يظل كاملا،بكل الأحلام الباهتة و الملتهبة.
نصف وسطيتي لم تحمل إلي الراحة عند الجراح،نصف وسطيتي تحفر عميقا،تخدش ما خلته شرع يلتئم،و تدمي حديث المصاب
نصف وسطيتي تغرسني نَوْرًا على شجر من صبار،تزرعني شرانق حرير وسط لهيب النار.
تماما كما أجلسني وسط القاعة, حيث جلست في ذلك اليوم و أخذ مكانه الذي كان ذات أمس مكاني.ليطلعني على انتصار حياته الذي لن يحمله إليه سواي.ليقول أنه وضع و بعد الجد و الكد خطة لعلاجي.أنه سيرفع عبء النصف وسط من على كتفي
أنه سيجعل...
انفلتت أحلامه سيلا حمل إلى قلبي أتربة خصبة،أزهر القلب ورودا حمراء كثيفة الأشواك،دموية الأريج..كاد عطرها ذاك يذهب بعقلي و صبابتي معا،قمت من مجلسي أحاول جر أوهان الفؤاد بُعيْد هذا الرجل الذي ارتسم صورة اعتيادي مألوف،ككل الآخرين.هدم رجلي الذي هِمت بنظرات عينيه،هدم أملي بأن لا تكون نصف وسطيتي جدار صد بيني و بين هذا العالم الكامل على كل نقائصه.
لِم أدفع فواتير باهظة عن خلل بسيط بينما العالم كله اعوجاج من حولي ولا يحاجه أحد.
سبقني إلي قبض على يدي، قال أن تمت المزيد؛ قال أن مركز الأبحاث المنتسب إليه قد وهبه منحة لإتمام مخططه،و أني سأصبح بحثه.
أتدرك معنى أن أكون مجرد بحث،أن أحترق بلهيب لطفه، و كل ما يصنع لإسعادي،أو ربما لبناء غده.هو يضم وجودي كله بين يديه ليشيد غده،و أنت أبي ..أنت هجرتني لتشيد الشيء ذات
أما أنا أبي،فإني نصف وسط من شيئه
نصف وسط من شيئك
و نصف وسط من كل شيء
و لم أهجره..لم أعارضه..لم أحاول إيجاد غد لي أنتئي به عن غديكما،غدي كان فقط اللحظة التي ألقاه فيها.
اللحظة التي يكون فيها في أحسن أحواله، حين يعيد ترتيب ماضي وحاضري على أمل أن يكون لي ذات يوم غد..
فالغد لا يزور أنصاف الأوساط..
لا يزورهم إلا إن هم انسلخوا من هوية طبعهم عليها الأمس العابر
وانصعت..أبي
بل وهِمتُ على وجهي بهذا الذي جعل النصف وسط مني صلصالا بين يديه، يصنع منه كمال الجمال..
أجلس إلى المرآة أحادث بريقها، فيتألق نطقي يضاهيها بل يفوقها يفوق حتى نجوم العلياء.أشبك يدي بيديه نطوف بأجنحة المركز أقرأ اللافتات أحي الحرس،أقرأ أسماء المحاليل،لا أتلعثم؛لا ..بلى أحدها كان متقارب المخارج لم أتمكن منه.حمل ناظري إليه شكواي، ابتسم..قهقه
قال أني، أبدا لن أحتاجه، لأنه سم قاتل،و بعد أيام أنا سأصبح أسعد نساء الأرض...و صدقته
كما صدقت كل كلماتِه السالفات
و كما سأصدق كلماتِه اللاحقات
و سأظل أصدقه حتى و أنا أرى كذب قوله جاثما يصرخ بي.
و جاءني أبي..
ذلك اليوم حل سريعا بي..أكاذيبه واجهتني ..قفزت من عينيه و هو يعلن أن الغد يومنا الموعود؛أن سعادتنا التي ارتقبنا ستفيض من حولنا،سترفعنا إلى مصاف الأعلين،هؤلاء الذين نحني الرؤوس إكبارا لهم،و نخفض الأصوات لحظة عبورهم،سنرتقي معا نحو تلك العلياء،سنختصر المسافات الشاهقة إليها،سنركب البرق ، و نزأر كالرعد هزيما لا توقفه حدود،و ليعلم الكون كله،أننا بنينا إنسانية إنسان ضائع بين الوجود و اللاوجود،بين رحمة الرب بالكيان و قسوة العبد بالإغفال.
أبي ،أخالك سمعت كل ذلك ،كله كان حقيقة ،نعم أبتي،لكنها حقيقة الشطر الكامل، النصف وسط في كل ذلك أداة ،لا أكثر.أنا كالورقة ،كالقلم،كالسماعة،كأي جهاز عمل به..أنا أساويهم تماما في نظره،لا بل يمتازون بتكرار استعمالهم،أما أنا فأستعمل كرة واحدة،ها أني نصف وسط ثانية..أبي
كنت نصف وسط في أعين العالم قبل و اليوم و بعد كل الذي كان،بعد أن ثمل القلب عشقا ،أنا نصف وسط في عين هذا العشق.
حضرته، و السعادة التي وعدني، استأثر بها لنفسه.
الجموع تتوافد، التهاني تتهاطل، النظرات كلها من نصيبه، وأنا تماما مثل ذلك القلم الذي يعلق قرب قلبه لا يدخله،أصنع مجده و يصنع حتفي.
أنا غده و هو وائد غدي و أمسي و ماضي و حاضري و كل أيامي.
إنه على المنصة مجددا..أبي
تحدث طويلا، شرح خطته، و بعد حين يقدمني وثيقة من وثائق البحث، يعرضني تماما كما يعرض هذه الأفلام و الخطاطات،ثم يحررني..ثم يرحل و يخلفني نصف وسط من الحب.أبي إليزا وجدت غير هيدجينز ترحل معه ،فمع من أرحل أنا؟
يعلو التصفيق، ها قد جاء دوري ،أبي..ابنتك صارت لا شيء من كل شيء،ابنتك تصنع انتصار رجل هزمها في كل شيء و انتصر
انتصر داخلها
انتصر خارجها
انتصر رغما عنها
هل تستقبلني أبي،هل تعوضني عن رحيلك المبكر
رحيلك المبكر هدم الطفلة ،أسر الأستاذة،حرم المعاقة،اغتال العاشقة.
أتذكر ذلك المحلول أبي ،أنا و بعد أن أفقدني رحيلك المبكر الأدرب نحو كل آخر أجد أخيرا الدرب نحوك،لأضع حدا لكل شيء،أتم آخر فصول نصف وسطيتي، و يصبح هو صاحب النصف وسط انتصار
و النصف وسط تألق و نجاح
17أكتوبر2002

jeudi 5 janvier 2012

من شفاه الكلمات ..قبلات







اعتلت منصة البوح شاعرة عربية، قالت:- أعشق المدن كما أعشق الرجال.. و أكتب للمدن كما أكتب للرجال...
من صف الأساتذة الثاني رن صوت أنثوي يقول:- أنا المسكونة بشهوة الأمكنة، تستوطنني المدن، و يصعب على الرجال اقتحام كلماتي..
يلتفت المهرجان الشعري بكل عيونه ، ليكتشف الأنوثة المستعصية، فإذ عيون يغرق بها البحر، و إذ رفعة مجنونة الغرور ، همس لها العميد و تكتسحينهم برنة حرف...
تأملتها الكاميرا التي بين يدي طويلا..غافلة عن الشاعرة التي تبعثرت كلماتها ، تناثرت..و باعدتها ..
لا ضرر..فلا أحد كان يراقبها ..
رفعت جلسات البوح، لتترأس العصية على الرجال الأمسية الأكاديمية، توسطت خمس فحول، طفلة تلملم أوراقا، فتبعثر قلوبا،و لم تملك عيون الكاميرا تحولا عن دفقات أنوثة يلفظها جمال متواضع ، و رنات صوت لا تذكرك إلا بالخلاخل، تنساب كلماتها قبلات ، تمسح وهن عمر من الحرمان..
أنثى ..
كانت أنوثة، تلثمك رغما عنك كلماتها، صوتها خيول تجر دعوة مجانية لاقتحامها، بل تتحدى رجولتك التائهة بين تقاسيمها الطفلة حد السذاجة.
و هي تغادر المنصة، تلقفتها السيدة محافظة المهرجان، ساقتها إلي.
- الأديبة ..بل الأستاذة تتحدث لقناتكم عن المهرجان.
ينتصب برج غرورها أمام تطلعات لا تحسن قراءتها، و هي الأستاذة..ربما مملكة كبريائها تعمي بصيرتها..
تبتسم لي كلماتها ، و رغما عني ..تلثمني ، تشعل الرجولة، ألتهب أهم بعادات الشعراء ، تقاطعني رنة هاتفها..
تطالع شاشته ، بطفلية مطلقة تبتسم ..تعتذر ..
- نداء القلب ..
تنزوي تكلم الحب ،و جمرا تسّاقط بأعماق الرجولة... كلماتها
تعاودني بسمات الكلمات: - عذرا كان زوجي ...
- مقتحمة أنت إذن..
- طبعا .
- و ..لم قلت لا يقدر الرجال على اقتحامك
- لتعرفوا أن ...