jeudi 26 janvier 2012

هوامش الوجع


هوامش الوجع

                                                                                          الإهداء                                                                                                                                                                                                                                  
إلى صاحب أوجاع ابن آوى
إليها: حين يختار الحرف هوامش الفؤاد، نكتب على هوامش الذاكرة

عندنا توقف القطار في المحطة الأخيرة، توقفت عينان عن ملاحقة حروف هذه الرواية، كنت قد بلغت آخر صفحة لكن عيوني لم تبلغ المنتهى، لم تكتف من التهام جنون الصدف المرتبة بعناية لإقناع ذاكرتي ..ذاكرتي دون كل القراء ..
كانت بكل حرف تحرك شوقي لقصة لم أعشها، حكاية كان قد رتبها القدر لذاكرتي، و رفض إقحام عيوني،و ها أنتِ يا صدف القراءة، يا شهوة الحرف التي تسكنني.. توقعينني بين أنياب رواية، تنهش ذاكرتي.
أنا يوم التقيت هذا الروائي المسكون بجنون حرفه، ما أجدت الصمت .. - و لا جديد أنقل إليك بعبارتي هذه- حاكمت حروفا لم أقرأها، فقط ليطول حديثه، و تنتشي روحي بكلام يكسر روتين مسامعي.
غير أنه .. ربما أدهى .. ربما ...لا أدري لأي سبب دسها بين يدي المنتشية بالتحليق شارحة نظريات لا أومن منها بحرف ، و وجدتني متورطة بتلك الشرارة الصغيرة التي أطلقت ، مع أني ما أطلقتها إلا لكسر الصمت المريب.
ها أنا و قد أتمتتها أضع حروفا صغيرة على حوافها [1]، و أورط غيري بها.عليا صديقة الطفولة وجدت الرواية تقتحم حقيبة يدها، تجاور أقلام العيون و أقلام الشفاه.
بعد أسبوع عادت ..قالت إليك نصك.. أوراقا متناثرات و حروفا مهشمة، من ذلك الأمس الذي لم يكن لك
اختليت بالصفحات الأخيرة من الرواية ورحت أعيد الركض خلف معانيها الهاربة، و إشاراتها السحرية لأنثى أخذت ما كان نبوءة لشقيقتها، و أنا ...
تقع عينان على كلمات سطرتها صديقتي بقلم الرصاص [2] تكاد تمزق الصفحات و تفر رافضة قول معانيها.
ما كنت لأصدق رواية، غير أني ما كنت أملك سبيلا للفرار من فكرتي السحرية، هل سرقت بشكل ما قدر غيري، و أهديتهم قدري... النبوءة التي أطلقها طبيب أسنان طماع بأني سأنتهي إلى سرطان اللسان إن لم أطع بعض أوامره الباهظة - طبعا- و خرجت بعد لقائي به محتضنة ذراع صديقتي سارة أقلد خشونة صوته، و أسخر من جليّ طمعه بطالبة، لا تجني ربع ما طلب من أجر، مرحبا بسرطان اللسان قالت...صديقتي
يضحك ربيع العمر ساخرا من التهديد بالموت، مع أني أعرف جيدا أن بيني و بين الموت صلة دم .. قرابة دم . أشياء كمثل قدر مفاجئة ، مباغتة، لا تأبه بالاستئذان ..
أو ..كالحب ..ترى لمَ لمْ أفكر بالحب ربما لأنه تأخر كثيرا، وحين جاء أخيرا، باغتني هو أيضا بقصة مقصوصة الجناح .. يومها قالت سارة : - القلب ينبض
- أهااا .. هل سيصيبه سرطان اللسان أيضا.. حافظي عليه ، فالتكاليف فوق مستوانا عزيزتي
ضحكت ..أطرقت .. و هي ترجوني أن أبدي بعض النضج، فالأمر جدي
- هو شاب يمر بي كل يوم.. حسنا تقريبا كل يوم ، عند عودته من العمل ، يمر بالمتجر الذي أعمل به ، يقتني عشاءه و يحادثني قليلا ، كلامه زهيد جدا ، لكنه كان كافيا جدا لبعث هذه العضلة التي جمدتها ظروف أسرتي،كما جمدت مساري الدراسي و باقي الأمور التي لا تخفى عليك ، و لا عليه
- و ..
كنت أنتظر البقية، هل طلب موعدا.. هل...
لا شيء هو لم يقل شيئا، لكنه صار يعرف أنها تنتظره كل مساء، و تعرف أنه يسمع نبضها. لأبني غدا لهذا النبض، عدت كلمتها أياما بعد ما أفضت إلي بسر قلبها، اقترحت أن تواجه قدرها، و تحيطه بحنانها، أو أن تضعه في مواجهة شعورها، هي تعرف و هو يعرف ، فلتأتي الخطوة الأولى
ما كان ذلك ممكنا ، و أنا طبعا كنت أعرف غير أني قصدت مداعبة القدر عله يبوح أيضا بمكنونات صدره..لكنه أبى ، حاولت إقناعها ، حاولت ..مرات عدة، و انتهيت إلى زج الفكرة برأسها.
رتبت بدقة فائقة موعدها مع الفرح، ككل النساء تزينت، مع أنها لا تشبه النساء. انتشى الصباح الذي طال عبوسه.
عانقتني .. قبلتني .. ثم غادرت ..خلّفت لقلبي رعشة تتراوح بين النشوة و الرهبة، حاولت كتمانها بالقراءة كعادتي، أخذت رواية صغيرة، كحلمنا الصغير، قلبت صفحاتها بغير النهم الذي اعتدت. رنة هاتفي خطفتني من صفحاتها، رقم مجهول..أنا لا أجيب من يخفي عني هويته عادة..لكن اليوم أجبت الصوت كان مألوفا ، قال اتصلت بي قبل أيام و كنت خارج الوطن ...
- كيف أتصل برقم لا أعرفه
- آه ..عذرا .. بالهاتف خلل ، أرجو أن تعذريني ..
ثم أرخى الصوت و سأل : ألم تتعرف على الصوت بعد ؟؟
ابتسم صوتي ..بلى
كنت اتصلت، لأستشير حضرتك في مسألة علمية، بما أنك لم تستطع الرد، سألت الزميل أحمد.
قبل أن يستعيد صوتي صوته، لأشكره على كرم معاودة الاتصال بي، وجدت صوته أيضا يفقد صوته، و هو يسألني موعدا خارج أوقات العمل
لم تكن الدهشة ما عقد لساني، كان الفرح.. هو من جثم على أطراف لغتي، فاختنقت، ما أبقى لي حرفا يحمل إليه نبضي، أربكه الصمت ، تأرجحت الكلمات على شفتيه ، لملمت حروفي خبرته أني ألقاه متى يشاء ...
و قبل أن يرد تطلبني صديقتي، أعود أذكر موعدا كنا رتبناه لها بعناية فائقة مع الفرح، يرفرف القلب أعتذر من رئيسي بالعمل ياسر، و أرد عليها..
- أخلف موعده.. الفرح
جملة واحدة و تغلق الخط ..ثم توصد عني جميع أبوابها .. تعتزلني ، ربما اعتزلت الحياة و ما كانت عيوني شاهدة عليها.كيف أقتحمها تلك الخلوة المرة ، أ ترتضي صديقتي الشجن رفيقا أعز مني ..
لم أجد غير اقتناء رواية لم تمشطها عيونها النهمة بعد، وحملها أليها، وحده الحرف يملك مفاتيح قلبها،طرقت باب غرفتها ، و أمها تبتسم ، أو يبتسم الأسى على محياها ..لا أدري
فتحت بدل وجهي وجدت الرواية على صفحاتها الأخيرة بوحي بأسرار النبض[3]، أخذتها و هي تعلق و تضحك – شريرة ..تعرفين مسالك الفؤاد
احتضنت أشياء منها ، ما كانت بالكامل في حضني ..بعضها ما كان هناك ..ساقتني إلى مجلسنا المعتاد على سريرها، و شرعت تروي عن تأخر الرجل الحلم عن مواعيد الفرح..قالت ..لما كلمته على هاتفه كان مشغولا،لما عاود الاتصال بها ، اعتذر بأنه نسي .. ن س ي الموعد..لا غير
ضحكت و أنا أضرب بكتفي كتفها و عيني تغمز عينها ..فضحكت . غيرت أثوابها ، و اكتسح جنون الشباب أزقة قسنطينة ، استعادت أنفاسها..و ما عدنا و التقينا إلا و هي تعيد إلي الرواية ، فقد علمت أني لم أقرأها بعد.
عند الصفحة الأخيرة سطرت حكايا القلب[4] الذي خلته اعتزل النبض ، يمارس نقاهته في سكون الصمت ، فإذ هو لا يعتزل سواي ..حتى حفل خطوبتي أفرغه غيابها من كل بهجة ، ما عرفت سر صمتها الطويل في حضرة أسئلة لم و لن أطرحها ، فلا حاجة بي لطرحها.
- أ لن تحضري زفافي أيضا . ساءلتها
- لا
- لم ؟
- ما أزال غير قادرة لا مواجهة هزائمي فيك
- أ سيء اختياري لهذا الحد ؟
- ...
- أ لست راضية عن اختياري؟
- بلى
- إذن
- راضية تماما ..راضية أتم الرضا.. راضية لأنه كان اختياري و أختارك أنت.. أنت هزيمتي و انتصاري
وجهان لحقيقتي المشوهة..
لملمت تصدعات النفس، جمعت أشلاء أحسست أنها الباقي من فتات الروح، و كتمت دمعة متمردة راغبة بالانفجار،طلبته، جاءني يسابق الخطو، كما لو أنه سيقبض على أحلام زائفة..لا يعرف أنها زائفة
- أتعرف صديقتي سارة ؟
- طبعا ..
ثم ابتسم – أعرفها عن قرب
- بمعنى
- كانت تريدني لها ، و القلب أرادك له
- لمِ لمْ تخبرني قبلا
- هذا شأنها ليس شأنك
خلعت خاتمه، تركته بين يديه، و اعتزلت النبض، أنشد نقاهة لا مواطن لها حتى بالحلم. أقلب صفحات القدر .
أ سطوت على قدرها أنا . اقتحمت دهشة صمتي حاملة رواية، فابتسم الشجن المعشش بالفؤاد، سابقت الحروف لأبلغ الصفحة الخاتمة [5] و أعثر على هوامش قلبها ، كنت أعلم أني مرتبة هناك بعناية فائقة ،لكن هالني غيابي المريع.
حمّلت نفسي ثوبا بالغ النقاء، و زهرا طافح الكبرياء، و سرت إلى حفل الخطوبة، التقطتني قريبتها، جالستني بمجلس كان لنا .. و أخذت تثقف أذني بأحاديث النساء .. مسكينة أذن لا تعرف من الكلام غير أحلام الروايات.. مسكينة أذني..
ثارت صديقتي و هي ترى انشغالي عنها مع أن عليا ما فارقتها، و ما كنت لأبدع مثلها، هي صاحبة السنوات الثلاث زواجا..كيف أزينها و أنا ما عدت أتقن حتى وضع زينتي. مع ذلك هنأت حماتها المستقبلية جمال براءتي،ودست بأذني كلمتين رقيقتين عن فيض أنوثتي ، خلفتني غارقة بين حروفها و دهشتي ..يبدو أن الجميع يصنعون دهشتي ، فبعد الخطوبة مباشرة ، عادت و قاطعتني صديقتي ، و خلفت بالقلب أسئلة حيارى لم أجد غير عليا أسكب بين يديها شجني ، غادرت بيتها و طفليها الصغيرين و جاءتني مسرعة ، و قبل أن تروي عطشي ، نهلت من صحرائي ، فعطشها كان أكبر ..سألتني عن الخاتم الذي ما عاد يشغل إصبعي، ابتسمت، أ هو سؤالها أم سؤال غيرها، خلتهما تعلمان، عدت و ابتسمت:
- تركته و تركت عملي يوم خبرتني صديقتنا أنه..هو حبها الحلم.
كأني صعقتها ، أو ربما ابتسامتي هي الصاعقة ، نسيت أسئلتي و رحت أجيب وابل لومها ، مع أن إجاباتي ما كانت تقنعها بل تزيد غيظها ، تزيح نظراتها ، تهربها بعيدا حتى لا ترى وجهي الذي ما عادت تحسن قراءة تفاصيله ، تلمح رواية ملقاة على وسادتي تأخذها تتشاغل بها ، أتركهما للأنس ، و أختلي بمطبخي لتحضير القهوة ، هي المرة الأولى التي أحضر لها القهوة وحدي دوما كانت ترافقني..
نشربها على دفئها ..باردة ، كقلب صمت نبضه ، و ترحل ، أحمل الرواية ، أضمها ، أقرر أن لا أفتح الصفحة الأخيرة لأقرأني عليها بل سأستجم بين صفحاتها كعادتي حتى أبلغ الأخيرة و أعرف يقينا أني سأجد عليها رسالة ما ، غير أن صديقتي خيبتني و تركت لي بياض الباقي من الصفحة الأخيرة.
مضطرة لزمت ُبياض الصمت بعدهما .. كلتاهما، وجدت لنفسي شبه وظيفة ، تغطي بعض نفقاتي ، لكنها لم تسعفني لاقتناء الروايات ، فضاع مني هامش الحكي ، و امتد العمر لحظات صمت ، بذرت فيها بضع صديقات زائفات. لو أن صديقتي تعرفان كم موجع زيف النبض ، كم حارقة كلمات نقولها ، و نحن نفكر بغير متلقيها
مشتاقة أنا ..
لسخريتنا من القدر..لبسماتنا..لسماء ضحكنا
مشتاقة أنا ..
كان يقولها لرفيقات عابرات قلب لم يعتد الترحال بين القلوب، ساقه الحنين لتمزيق الصمت، طرقت باب عليا،ضمتني بقوة و أجهشت بالبكاء.. ارتعش القلب فزعا، ما بال الغالية، مسحت دمعها، ساقتني لغرفتها تحت نظرات حماتها، و بنات الحماة..
أمطرت رجفة رهبتي أسئلة عن حالي و مآلي ، هدأتها و سألت سبب دمعها الجاري، ما أتقنها الصمت ، قالت سارا ..خنقها الدمع ، قبضت يدها : - ما بها .. ما بها سارا ؟
- ألم تعلمي .. أصابها سرطان اللسان، منذ سنة تقريبا، نحن ننتظر...
ماذا أقول للقدر ..لقد أخطأت العنوان يا قدر ، ذاك كان نصيبا سطر لي ..
أدخل غرفتها.. هيكل عظمي يكسوه جلد لا حياة فيه، أدنو أجثو على ركبتي أحاول لملة حروفي، اللغة خائنة،الصوت خائن.. كل تلك النصوص التي قرأت لم تسعفني حرفا واحدا يلفظ حرقتي. من خلف غمامة العبرات التي تحجرت بمقلتي لا غادرتها و لا جفت، ألمح نظراتها..كشواظ من نار تساقط بالقلب .. بأعمق نقاط القلب.
تمد يدها إلى حقيبة يدي تسحب منها رواية أجهدت راتبي الجديد لاقتنائها، تأخذها تقربها منها، تدسها تحت وسادتها، أعلم أن الزيارة انتهت.. أحملني إلى وسادتي أزج رأسي تحتها و أنهمر شلالا من دمع، ينسكب على نار إغريقية التهبت بالقلب ، لا يزيدها الدمع إلا استعارا ..
عدت إليها أبحث عني بين مقلتيها هل تغيرت تلك النظرة أم أنها للخلود خلقت، ما كان ثمة نظرة و لا جثمان،دفنت سريعا أمس .. هكذا قالوا دخلت أعزي والدتها، تضمني إلى صدرها تبقيني هناك أغرق بعطرها أنثى الحلم التي لم يعتصر القدر.. أ كانت تعلم أنها ضحية بديلة للقدر، أم أنها ما علمت..
تسحب روايتي تضعها بين يدي، تقول أعلم أنك ستشمين هنا عبير الأمس، تختنق اللغة و يعرب الدمع، تمسحه تقول اعذري فزعي لم أتصل بك أمس، أدنو منها، ألقي بي في حضنها في محاولة فاشلة لامتصاص شيء ما..
لا أدري ما هو .
يقطع تأملي للصفحة الأخيرة صوت الشاب الجالس قبالتي :
- آنستي .. هذه هي آخر محطة ...
يخرجني من صمت صفحات تحرك الأسئلة و لا تمنح أي جواب ، أبتسم ، أشكره ، و ..
أخرج قلم رصاص ، أودع به هذه الرواية[6] ، فبعد اليوم لن أعود لقراءتها ، أحرك بذلك الفتى شهوة التطفل على مدن الحرف السرية ، أرفع نظراتي الباسمة ، يسألني سر هذا الكتاب، فأدسه بين يديه ، يطلب مني أن أسجل رقم هاتفي حتى يتمكن من إعادته إلي يوم يتم قراءته.. أبتسم .




[1] : كأنها ذكرتني بشيء حصل معي
اكتشفيه بنفسك ..محبتي

[2] : هل أنت مجنونة لتصدقي رواية ، أو كتابا أصفر ، أو حتى نظرية ، خلتك أذكى بقليل
الموت حق .. و طريقة موتنا لا يعرفها غير خالقنا
[3] : رئيسي السيد الوقور ياسر طلب يدي ..هل تصدقين
أمممممممممممم هل أوافق ؟؟
الحقيقة وافقت و انتهى ، أنا لا أحسن مقاومة سحر رجل يقرأ الروايات
أوف و ألف أوف من الروايات
[4] : و سيطلب فارس يدي ، و سأقبل ..
[5] : حفل خطوبتي يوم الخميس
[6] : تطوى الصفحات ، و تخلدين وردة من نور بالقلب قبل الذاكرة

1 commentaire: